button icon
صورة الخلفيّة
button icon
بطاقات دُعاء
button icon
رمضان مبارك
button icon
بطاقة الإجابة

سر النقوش الغامضة في معبد اسلنطة في ليبيا

ADVERTISEMENT

على الرغم من معيشتي في مصر لسنوات عديدة ، إلا أنني تفاجأت بأنني لم أكن على علم بوجود مكان شديد الغموض في جارتنا العزيزة ليبيا. يقع هذا المكان الغامض في قلب الجبل الأخضر، وتحديداً على سفح جبلي معزول تحيط به كهوف الزمن وتغمره ظلال التاريخ،  حيث تقف أطلال معبد اسلنطة شامخة، تحرسها النقوش الحجرية الأكثر غموضاً وإثارة في ليبيا، بل وربما في شمال إفريقيا بأكمله. هذه النقوش ليست مجرد أعمال فنية قديمة، بل رسائل بصرية خالدة من مجتمع غابر، نقشتها الأيادي على جدران الصخر لتخلّد طقوساً وأساطير، وتثير في كل من يراها رهبة وتساؤلاً.

تصوير وثائقيات لي

الموقع والتسمية

عرفت قرية اسلنطة في بعض المراجع التاريخية القديمة باسم "لاساميسيس"، وتقع جنوب غرب مدينة قورينا (شحات الحالية) على مسافة تقارب الخمسين كيلومتراً. ترتفع المنطقة عن سطح البحر حوالي 900 متر، مما يجعلها عرضة لأجواء شتوية قارسة، تكتسي خلالها المنحدرات والسهول بطبقات كثيفة من الثلج، في مشهد طبيعي لا يخلو من الجمال والغموض.

يتمركز معبد اسلنطة في الطرف الشمالي من السفح، ويحيط به عدد من الكهوف التي تتجه معظمها نحو الجنوب، مشكلةً منظومة معمارية وروحية تستحق التأمل والدراسة.

ADVERTISEMENT

الاكتشاف والتنقيب الأثري

أول من لفت الانتباه الحديث إلى الموقع كان الرحّالة الإيطالي جوزيبي هايمان في عام 1881، أثناء رحلته الاستكشافية لتتبع طرق القوافل والمجتمعات القديمة في الجنوب الليبي. وقد وصف ما شاهده من آثار بأنه يعود لمجتمع ليبي رعوي، عاش هنا قبل آلاف السنين.

لاحقاً، التقط الجيولوجي غريغوري أول صورة فوتوغرافية للموقع عام 1909، وتبعتها بعثة أثرية بقيادة هالبهر وسانكتس أوريغيما في عام 1910، والتي وثّقت المعبد من دون القيام بحفريات موسعة. لم تبدأ التنقيبات الجادة إلا مع الباحث كيزلاتسيوني بين عامي 1912 و1928، الذي كشف عن شبكة معقدة من النقوش الصخرية والنماذج الفنية، التي لا تزال تحير المؤرخين والباحثين حتى اليوم.

تصوير وليد زغيد

التكوين الفني: خمس مجموعات من النقوش الغامضة

تُقسم النقوش الفنية في معبد اسلنطة إلى خمس مجموعات رئيسية، تتوزع على الواجهة الحجرية للمعبد وداخل الكهف المركزي، وتشكل بمجموعها سرداً بصرياً مدهشاً يغوص في عالم الطقوس، والتضحية، والأسطورة.

المجموعة الأولى: النساء والوحوش

تقع على يمين المدخل الجنوبي، وتُظهر ستة أشخاص؛ ثلاث نساء يرتدين ثياباً فضفاضة ذات طيّات طويلة، وصبيين، بالإضافة إلى وجوه بشرية أخرى ووجوه حيوانات تشبه الخراف أو الكلاب. اللافت في هذه المجموعة هو تعبيرات الوجوه الخالية من الحياة وتناسق الأجساد غير المألوف، مما يضفي على المشهد رهبةً خاصة.

ADVERTISEMENT

المجموعة الثانية: منضدة الذبح

تعلو منضدة حجرية منحوتة أربعة خنازير ضخمة تتجه وجوهها نحو الجنوب، وتفصل بينها قنوات صغيرة ربما استخدمت لتصريف دماء القرابين. وتحت هذه المنضدة، يظهر صفّان من المنحوتات لرجال ونساء يرفعون أيديهم وكأنهم يقدمون سلال القرابين. وتُكمل المشهد رؤوس لأسد وحصان في الطرف الشرقي، مما يعزز رمزية القوة والخوف والتضحية.

المجموعة الثالثة: رؤوس الكهف

داخل الكهف الصغير، تُنحت خمسة رؤوس بشرية بأشكال مشوهة؛ خدود بارزة، شِفاه غليظة، وشعر مجعد، وبعضها يبدو وكأنه يرتدي قبعات. أحد الرؤوس يتميز بشارب كثيف، ما قد يدل على مكانة عمرية أو اجتماعية. هذه الرؤوس تقابل الزائر بنظرات ثابتة، وكأنها تحرس السر الدفين لهذا المكان.

المجموعة الرابعة: سيادة الأفعى

في لوحة فنية تمتد من الغرب إلى الشرق على جدار الكهف، تظهر أفعى ضخمة، يفتح فمها لالتهام رأس كبش أو خروف. وتُحيط بها مشاهد معقدة: تمساح يهمّ بافتراس عجل، امرأة بثوب طويل، إنسان برأس متجه للأسفل، وكلب، وغزال. وتُظهر اللوحة أعلاه شخصين يحملان سلالاً أو يضعان أيديهما على رأسيهما في إيماء غامض قد يدل على طقس تعبدي.

تم اكتشاف أجزاء مفقودة من هذه اللوحة خلال ترميم واجهة المعبد عام 1993، وتحديداً بين رأس الأفعى والمنحوتات البشرية داخل الكهف، مما ساعد على فهم تسلسل المشاهد.

ADVERTISEMENT

المجموعة الخامسة: الصراع والتضرع

رغم تلف جزء كبير منها، إلا أن ما تبقى من هذه المجموعة يُظهر مشهداً درامياً لثلاثة أشخاص في وضعية صراع، ربما تجسّد طقساً جنائزياً أو مشهداً أسطورياً. وفي أقصى الطرف الغربي، يظهر طفل صغير يجلس واضعاً يديه بجوار رأسه، في وضعية توحي بالخوف أو التوسل. وفي مركز المعبد، تظهر قاعدة عمود أسطواني مزخرف بخمس دوائر حلزونية، ربما كانت تحمل سقف المعبد الحجري.

تصوير وليد زغيد

الطراز الفني والأسلوب التعبيري

ما يميز معبد اسلنطة عن غيره من المواقع الأثرية الليبية هو الجمع بين الرمزية التعبدية والنبرة الغامضة التي تخترق المتلقي. فبينما تميل النقوش في قورينا أو سوسة إلى الزينة الجنائزية المألوفة في العالم الإغريقي، نجد هنا فناً خاماً، عنيفاً، يتناول مفاهيم الطقوس والدم والرهبة بأسلوب تصويري مباشر وغير معتاد.

توظيف الحيوانات مثل الأسد، الحصان، الأفعى، والتماسيح، إلى جانب البشر في حالات انفعالية حادة، يضعنا أمام ثقافة لم تُفهم بالكامل بعد، وقد تكون انعكاساً لعقيدة محلية animistic أو totemic سابقة على التأثيرات الرومانية أو الإغريقية.

سر تعبيرات الوجوه المنحوتة في اسلنطة

من أكثر العناصر إثارة في معبد اسلنطة هي تعبيرات الوجوه المنحوتة على جدرانه وفي أعماق كهوفه، تلك الوجوه التي تستفز العقول لإيجاد تفسير مقنع ، كما أنها تطرح أسئلة أكثر مما تجيب.هذه الوجوه ليست وجوهًا تقليدية كما في الفنون الإغريقية أو الرومانية، بل تحمل سمات متضادة تجمع بين الرهبة والجمود، وبين الإيحاء والانغلاق. بعض الوجوه تظهر بملامح حادة وعيون واسعة جامدة بشكل يوحي بأنها تراقب الداخلين إلى الكهف، بينما بعض الوجوه الأخرى تبدو مشوهة أو غير مكتملة، مما يعطيها طابعاً ميتافيزيقياً يُخفي خلفه رموزاً ومعتقدات دفينة.

ADVERTISEMENT

يرجّح بعض الباحثين أن هذه التعبيرات ليست مجرد تصوير لوجوه أفراد، بل تمثيل لحالات شعورية أو طقوس روحية، مثل الخوف، الندم، الإذعان، أو حتى الاتصال مع عوالم غيبية. وقد يكون الهدف من نحت هذه الوجوه بتلك الدقة الرمزية هو تحويل الكهف إلى مساحة روحية يعيش فيها الداخل تجربة نفسية وشعائرية فريدة. ما يجعل هذه المنحوتات فريدة بحق هو قدرتها على التأثير في المتلقي دون كلمات، وكأنها تخاطب أعماق وعيه بأسلوب بصري مشفّر لم تُفك رموزه بعد.

الرمزية الدينية والبعد الأسطوري في منحوتات معبد اسلنطة

تحمل المنحوتات التي تزين واجهة معبد اسلنطة وداخل كهوفه دلالات ورموزاً دينية وأسطورية معقدة، وتشير إلى منظومة معتقدات محلية مميزة ربما كانت قائمة قبل التأثيرات الهيلينستية أو الرومانية على المنطقة. فعلى الرغم من أن العديد من الباحثين صنّفوا هذه المنحوتات ضمن "الفن الليبي ما قبل التاريخ"، إلا أن الرموز المستخدمة، مثل الثعبان الضخم، والأسد المتوثب، والخنازير الأربعة، تدل على طقوس ذات طابع غامض، قد ترتبط بعبادات توتيمية أو شعائر تحوّل روحي. فالثعبان مثلاً، الذي يظهر بطول الجدار من الغرب إلى الشرق، لطالما ارتبط في ثقافات قديمة بالبعث والحماية من الأرواح الشريرة، وربما يمثل قوة كونية تحرس مدخل العالم الآخر. أما الخنازير، التي نُحتت بطريقة توحي بأنها قرابين مذبوحة، فتدل على طقوس تضحية دورية كانت تُمارس لاسترضاء الآلهة أو أرواح الأجداد.

ADVERTISEMENT

كما أن وجود الشخصيات البشرية في وضعيات محددة، كرفع الأيدي أو وضعها على الرأس، قد يكون دليلاً على طقوس الابتهال أو التضرع، أو حتى طقوس فداء روحي. وهذا يمنح معبد اسلنطة بعداً فريداً لا نجده في المعابد الأخرى المنتشرة في الجبل الأخضر، ويجعله شاهداً صامتاً على موروث روحي لا يزال بحاجة إلى المزيد من البحث والكشف لفهم أبعاده الحقيقية.

تصوير وثائقيات لي

الأهمية الثقافية وضرورة الحفظ

تكمن أهمية المعبد في كونه يمثل نافذة نادرة على منظومة معتقدات ليبية منسية، حيث تتقاطع الأسطورة بالدين، ويذوب الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان في طقس رمزي مهيب. ومع أن عمليات الترميم بدأت في تسعينيات القرن الماضي، لا تزال كثير من النقوش عرضة للتآكل بفعل العوامل الطبيعية.

الحفاظ على معبد اسلنطة لا يعني فقط حماية الآثار، بل هو حماية لذاكرة الإنسان الليبي، ولعالم روحي غني لا يزال يبوح بأسراره بصمت الحجر.

اسلنطة ليست وجهة لأصحاب القلوب الضعيفة

زيارة معبد اسلنطة ليست تجربة سياحية عادية. فهي تتطلب قوة جسدية، وروح مغامرة، واستعدادًا لمواجهة رؤى قديمة ومقلقة. لكنها بالنسبة للآثاريين والمؤرخين وعشاق الثقافات، تُعد رحلة مجزية بعمق. إن المعبد يروي قصة نُقشت في الصخر، قصة ليست فقط عن الحياة والموت، بل عن الخوف والإيمان والحالة البشرية في أنقى وأقسى صورها.

toTop