فترة منتصف العمر، أي الفترة من أوائل الأربعينيات إلى أوائل الستينيات، صعبة. ولكنها ليست أزمة. يتحدث الناس عن فترة منتصف العمر وكأنها انهيار مفاجئ، ويدعونها أزمة. ولكن عندما نفكر في الأمر وكأنه إعادة تنظيم أو إعادة توجيه، ونقوم بالمواءمة مع قيمنا وذاتنا الأساسية ووجهتنا الحقيقية، يصبح منتصف العمر وقتًا رائعًا لإعادة تقييم حياتنا، ولن يكون أزمة.
يقول عالم النفس والمعالج النفسي كارل يونغ: ”تبدأ الحياة حقًا في سن الأربعين. حتى ذلك الحين أنت تقوم بالبحث فقط”. كان يعتقد أن السنوات الأربعين الأولى (النصف الأول من الحياة) هي فترة ”إعداد“ لتكوين ذاتنا. نجمع البيانات، ونتعلم عن العالم، ونكتشف من نحن. لكن العمل الحقيقي - عيش الحياة بشروطنا الخاصة - يبدأ لاحقًا.
في شبابنا، نستوعب كل شيء: الأفكار والقيم والمعتقدات. نحاول أن نفهم الحياة. لكننا لا نملك بعدُ السيطرة الكاملة على قصتنا الخاصة. نجرب أدوارًا مختلفة، ونستكشف ما يمكن أن نكون عليه. إنها تجربة نتعلم من الفشل والأخطاء والتحديات فيها. يسميها يونغ ”النصف الأول من الحياة“، وهي عملية تأسيس الهوية. وهي تنطوي على أسئلة كبيرة مثل ”من أنا؟“ و”إلى أين أنتمي؟” نبحث فيها عن الاستقرار، ونبني وظائف وعلاقات وعائلات. لكن هذه ليست الصورة الكاملة بعد. نحن لا نعرف تماماً ما الذي يحركنا وما هو هدفنا. ما زلنا نضع أساساً لـ ”الذات“. وبحلول الوقت الذي نصل فيه إلى سن الأربعين، يبدأ تحول كبير.
هذه المرحلة هي ما يسميه يونغ ”التفرّد“. التفرّد يعني أننا نصبح كاملين. نحن ندمج جميع أجزاء أنفسنا - آمالنا وأحلامنا ومخاوفنا وجروحنا. إنه مثل دمج كل الدروس التي تعلمناها حتى الآن واستخدامها لتوجيه مسارنا الخاص. نكتسب الحكمة والوضوح، ولا نعود نسعى لمجرد التأقلم.
كتب يونغ: ”إن التقاء شخصيتين يشبه التقاء مادتين كيميائيتين: إذا كان هناك أي تفاعل، فإن كليهما يتحولان“. تُظهر الدراسات في علم النفس التطوري أن الأشخاص الذين تجاوزوا الأربعين من العمر يختبرون عمقًا جديدًا من الوعي الذاتي. ويجد علماء الأعصاب أن المراكز العاطفية في الدماغ تصبح أكثر توازناً بمرور الوقت. نتوقف عن التفاعل مع الحياة، ونبدأ بالتصرف من موقع الاختيار، وكأن العقل يكتسب نوعًا من الحرية لم يكن موجودًا من قبل. في مرحلة الشباب، نعتمد على العالم الخارجي لتوجيهنا. نهتم بما يعتقده الآخرون. في سن الأربعين، نبدأ بالنظر إلى الداخل. نسأل، ”ما الذي أريده حقًا؟” نصبح أقل تأثراً بالتوقعات الخارجية، وتبدأ الحياة لأننا نبدأ أخيرًا في العيش بشروطنا الخاصة.
رأى يونغ أن هذا أمر ضروري للسعادة الحقيقية؛ إذ كان يؤمن بأننا يجب أن نواجه مخاوفنا الخفية، وانعدام الأمن والرغبات المكبوتة. فقط من خلال الاعتراف بها نصبح كاملين. قد يسمي البعض هذا ”أزمة منتصف العمر“، لكن يونغ رأى أنها نقطة تحول، وأطلق عليها ”صحوة منتصف العمر“.
في هذه المرحلة، تتحول الحياة من الفعل إلى الوجود. لم يعد الأمر يتعلق بإثبات أنفسنا بل بأن نكون أنفسنا. نبدأ التركيز على الأشياء التي لها معنى وتحقق لنا، بدلاً من الأشياء التي تثير إعجاب الآخرين. حتى الآن، كنّا نراكم المعرفة والمهارات والخبرات. ولكن بعد سن الأربعين، نستخدم هذه المعرفة والمهارات والخبرات لنعيش حياة حقيقية. في هذه المرحلة تصبح الحياة أكثر من مجرد تغيير مهني أو هواية جديدة. إنها تحول داخلي نبدأ فيه باتخاذ الخيارات بناءً على ما نحن عليه، وليس على ما قيل لنا أن نكونه.
وجد الباحثون أن الأشخاص الذين تجاوزوا سن الأربعين غالبًا ما يشعرون برضا أكبر عن الحياة. فهم يشعرون بأنهم أكثر ترابطًا وأقل اندفاعًا بالطموح والمنافسة، ويتقبلون أنفسهم بشكل كامل. ويصبح القبول حرية جديدة. فنحن الآن نعرف ما يهمنا ونتخلى عن الباقي. وكأنّ ”ضجيج“ الشباب أصبح غير ذي صلة، حيث نبدأ في الاستماع إلى صوتنا الداخلي.
يعتقد يونغ أن مواجهة منتصف العمر بوعي أمر ضروري. وأننا بتجنّبها، نخاطر بأن نصبح جامدين أو ناقمين أو مستائين، وتبقى الحياة ضحلة. ولكن إذا واجهناها، فسننمو بطرق لا يمكن أن يحققها الشباب.
نتوقف عن مجرد ”البحث“ في الحياة ونبدأ في تصميمها. كل تجربة حتى الآن تصبح أداة؛ الأخطاء تصبح دروسًا. والفشل يصبح حكمة. تبدأ الحياة في سن الأربعين لأنها النقطة التي نستطيع فيها أخيرًا رؤية الصورة كاملة. نتساءل عن الأشياء التي كنا نعتبرها من المسلمات: النجاح، والعائلة، والوظيفة. وعندما ندرك أننا هنا لنعيش حياة محددة - حياتنا، وليس فكرة شخص آخر عن الحياة. نبدأ بالعيش وفقًا لحقائقنا الخاصة، وليس وفقًا للتوقعات التي سُلّمت لنا في شبابنا. قد تشعر في منتصف العمر بالضغط لاتخاذ هذا الخيار: إما أن تتوافق مع تلك التوقعات، أو أن تعيش بحرية كما أنت. ويدفعك هذا إلى مواجهة الخوف: الخوف من الأحكام، ومن الفشل، ومن الرفض. وهذا في الواقع غير مريح؛ فقد تخسر صداقاتك القديمة، أو تتخلى عن طموحاتك القديمة، أو تتراجع عن التزامات لم تعد تخدمك. ولكن من خلال الانزعاج، تتعلم الشجاعة.
قد يكون مُرعبًأ أن يتقبل المرء نفسه بالكامل. وهذا هو السبب في أن منتصف العمر يمكن أن ينحرف بسرعة إلى أزمة. ولكنه في الحقيقة ولادة جديدة، وهدية، ونقطة تحول للحرية الداخلية،
لأنه فرصة لإعادة تعريف النجاح والحب والسعادة.
المساهمات العربية في الحضارة: منظور تاريخي وثقافي
جمال المصري
كيف تصبح أكثر ذكاءً من 99% من الناس
لينا عشماوي
غابات الأرز المهيبة في لبنان
عبد الله المقدسي
مصر خالية من الملاريا: علامة فارقة في تاريخ الصحة العالمي والوطني
جمال المصري
الأخطاء الاجتماعية التي يرتكبها الرجال الذين يعانون من ضعف مهارات التواصل دائمًا (دون أن يدركوا ذلك)
عبد الله المقدسي
أشياء يجب معرفتها قبل السفر إلى مصر
عبد الله المقدسي
الدول العربية: معلومات شيقة لم تسمعها من قبل
نهى موسى
السر لتحقيق الحياة المتوازنة: كن أقل "نمطية" وركّز على علاقاتك
حكيم مرعشلي
العثور على قبر في الأردن تحت إحدى عجائب الدنيا السبع
عبد الله المقدسي
المعلقات، أقدم القصائد العربية: التاريخ والقيمة والإرث
شيماء محمود