المغرب الأثري: فاس ووليلي ومراكش عبر العصور

عند التفكير في السياحة في المغرب، غالبًا ما تتبادر إلى الذهن الصور الملوّنة للأسواق الشعبية، والقصبات القديمة، والجبال الأطلسية المهيبة. لكن وراء هذه الصور تختبئ قصة حضارية عميقة تمتد لآلاف السنين، تتجلى في مدن مثل فاس ومراكش، وفي مواقع أثرية خالدة مثل آثار وليلي، التي تجعل رحلة الزائر أشبه بعبور صفحات التاريخ من العهد الروماني مرورًا بالفتح الإسلامي وصولًا إلى مجد الحضارة الأندلسية وانصهارها في الهوية المغربية الأصيلة.

صورة بواسطة Paul Macallan على Unsplash

فاس: قلب الحضارة المغربية النابض

تأسست فاس في أواخر القرن الثامن الميلادي على يد إدريس الثاني، لتصبح العاصمة العلمية والدينية للمغرب، وحاضرة مرموقة اجتمع فيها العلماء والحرفيون والتجار من أنحاء العالم الإسلامي. ما يميز المدينة القديمة في فاس هو كونها أكبر منطقة مشاة خالية من السيارات في العالم، بممراتها الضيقة المتشابكة التي تتخللها ريح العنبر وروائح التوابل.

الجامع القرويين: منارة علمية خالدة

لا يمكن الحديث عن فاس دون ذكر جامع القرويين، الذي أسسته فاطمة الفهرية عام 859م. يُعد أقدم جامعة قائمة في العالم بحسب اليونسكو، واحتضن على مر العصور فقهاء وفلاسفة وأطباء أثروا العالم الإسلامي. الهندسة المعمارية للقرويين مبهرة بأقواسها الح Horseshoe المنحنية ونقوشها الجصية الأندلسية الجميلة، فضلًا عن الأبواب البرونزية المزينة بآيات قرآنية وخطوط كوفية دقيقة.

أسواق فاس: عبق التاريخ في كل ركن

تتميز أسواق فاس بأجواء أصيلة غير متكلفة. سوق العطارين، على سبيل المثال، يعرض كافة أنواع التوابل المغربية مثل الكركم والزنجبيل والحريرة، إضافة إلى العطور الطبيعية والصابون البلدي بزيت الزيتون. أما سوق الصفارين فهو موطن النحاسين الذين يطرقون الأواني والصواني الكبيرة أمام أعين الزوار، مما يجعل التجربة سمعية وبصرية في آن.

مدارس فاس العتيقة

المدارس (المدرسة البوعنانية، مدرسة العطارين) هي تحف معمارية شاهدة على ازدهار العلم بفاس. تتميز ببلاط الزليج المغربي التقليدي والمنابر الخشبية المنحوتة بآيات قرآنية ونقوش هندسية رائعة، تعكس روعة التداخل الأندلسي المغربي في العمارة والفنون الإسلامية.

صورة فوتوغرافية بواسطة Parker Hilton على Unsplash

وليلي: بقايا روما على أرض المغرب

تبعد آثار وليلي حوالي 30 كم عن مدينة مكناس و50 كم عن فاس، وتقع في قلب سهل خصيب يطل على جبال زرهون. تأسست وليلي كمدينة رومانية مزدهرة في القرن الثالث قبل الميلاد، وشهدت أوج ازدهارها في القرن الثاني الميلادي.

فسيفساء وليلي: لوحات حجرية تروي قصص الآلهة

أشهر ما يميز وليلي فسيفساؤها الرومانية المحفوظة بعناية. عند التجوال بين بقايا الفيلات الرومانية، يمكنك مشاهدة فسيفساء "أورفيوس يجذب الحيوانات بالموسيقى"، و"أطلس يحمل قبة السماء"، بالإضافة إلى مشاهد لحياة يومية رومانية تجسد أناقة وثراء سكان وليلي في ذلك العصر.

قوس النصر والمعبد

يعد قوس النصر الذي بناه الإمبراطور كاركلا عام 217م من أبرز معالم الموقع، فضلًا عن بقايا المعبد الروماني والمنتدى والحمامات العامة التي توحي بعظمة التنظيم المدني والمعماري الروماني.

وليلي بعد الرومان

بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، استمر البربر في الإقامة في وليلي، إلى أن أصبحت لاحقًا عاصمة للدولة الإدريسية الأولى، قبل الانتقال إلى فاس. ولهذا، تشكل وليلي حلقة وصل فريدة بين الحضارة الرومانية والفتح الإسلامي، بما يعكس عمق التراث المغربي وتداخله مع ثقافات البحر المتوسط.

الصورة بواسطة Dan Diffendaleعبر flickr

مراكش: بهجة الجنوب وروح الصحراء

إذا كانت فاس مدينة العلم والفقهاء، فإن مراكش هي مدينة البهجة والحياة الحمراء الدافئة. أسسها المرابطون في القرن الحادي عشر، وشهدت أوج ازدهارها في العهد الموحدي والمريني، لتصبح مركزًا تجاريًا وثقافيًا مهمًا يربط الصحراء الكبرى بمدن المغرب الداخلية وسواحل الأطلسي.

جامع الكتبية: رمز مراكش الروحي

يقع جامع الكتبية في قلب مراكش القديمة، بقبته البارزة ومئذنته المزخرفة بنقوش حجرية وأقواس أندلسية-مغربية. يشبه تصميمها مئذنة الخيرالدا في إشبيلية، ما يعكس الامتداد الأندلسي الواضح في عمارة مراكش، ويعطيها مكانتها كواحدة من أهم مآثر مراكش الدينية.

ساحة جامع الفنا: مسرح مفتوح للحياة المغربية

تُعد ساحة جامع الفنا قلب المدينة النابض بالحياة. هنا يلتقي الحكواتيون ومروّضو الثعابين وعازفو الكمان والطهاة الشعبيون في مشهد كرنفالي يومي. عند غروب الشمس، تفوح روائح الطاجين والكسكس والشواء المغربي من العربات والمطاعم الصغيرة، ليعيش الزائر تجربة حسية شاملة تدمج الصوت والصورة والرائحة في لوحة واحدة.

القصور والحدائق

من قصر الباهية بتحفه الهندسية والزخارف الخشبية والجصية الرائعة، إلى حدائق ماجوريل بألوانها الزرقاء الساحرة التي استلهمها إيف سان لوران لاحقًا، تزخر مراكش بكنوز معمارية وفنية تعكس ثراء الهوية المغربية وجمالها الفريد.

بين حضارة الأندلس وروح المغرب العريق

إن زيارة فاس ووليلي ومراكش ليست مجرد رحلة سياحية، بل عودة إلى حضارة نسجت من العلم والفن والدين والتجارة هوية مغربية فريدة عبر العصور. ففي فاس، يتجلى العمق الديني والعلمي للمغرب. وفي وليلي، ترى بوضوح تداخل الحضارات المتوسطية والرومانية والبربرية. أما في مراكش، فتشعر بالحياة والفرح والانفتاح على الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

هذه المدن الثلاث هي مفاتيح لفهم التراث المغربي بعمقه الإنساني والثقافي. بين آثار وليلي التي تروي تاريخ الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا، والمدينة القديمة في فاس التي حافظت على هوية مغربية أندلسية خالصة، ومآثر مراكش التي جمعت الزخارف الأندلسية بروح الحياة الصحراوية، تتكون لوحة حضارية متكاملة تجعل من المغرب وجهة فريدة لمحبي الرحلات الثقافية والتاريخية على حد سواء.

أكثر المقالات

toTop