هل أريحا هي أقدم مدينة في العالم؟

عندما نتساءل عما إذا كانت أريحا أقدم مدينة في العالم، علينا أولًا تعريف ما نعنيه بـ "المدينة". هل هي مستوطنة دائمة؟ مكان ذو أسوار ومبانٍ؟ مركز للتجارة أو الحكم أو الدين؟ يُعرّف علماء الآثار المدينة عمومًا بأنها مستوطنة كبيرة ودائمة ذات شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي والبنية التحتية والاستمرارية على مر الزمن. تتنافس العديد من المدن القديمة - مثل أوروك في بلاد ما بين النهرين، وجبيل في لبنان، وتشاتالهويوك في تركيا الحديثة - على لقب أقدم مدينة. ومع ذلك، غالبًا ما تتصدر أريحا، الواقعة في الضفة الغربية بالقرب من نهر الأردن، القائمة. لا تكمن شهرتها في عمرها فحسب، بل في الأدلة الأثرية المذهلة التي تدعم استمرار وجودها لآلاف السنين. قصة أريحا لا تقتصر على عمرها، بل هي قصة صمود. فقد نجت من الكوارث الطبيعية والغزوات وصعود الإمبراطوريات وسقوطها. لفهم سبب تسمية أريحا غالبًا "أقدم مدينة في العالم"، علينا أن نتعمق - حرفيًا ومجازيًا - في طبقاتها القديمة.

صورة بواسطة aniel Case على wikipedia

أريحا عبر العصور: جدول زمني للحضارة

يعود تاريخ أقدم مستوطنة معروفة في أريحا إلى حوالي 10,000 قبل الميلاد، خلال العصر النطوفي. كان هذا عصرًا شهد انتقال البشر من مجتمعات الصيد والجمع البدوية إلى مجتمعات زراعية مستقرة. كشفت الحفريات الأثرية في تل السلطان، تل أريحا القديم، عن أدلة على منازل حجرية دائرية، وحُفر تخزين، وأدوات - وهي علامات على مجتمع عاش في مكان واحد على مدار العام. بحلول عام 8000 قبل الميلاد تقريبًا، تطورت أريحا لتصبح مدينة بدائية ذات سمات مميزة في عصرها. ومن أشهر الاكتشافات جدار حجري ضخم وبرج، ربما استُخدما للدفاع أو للسيطرة على الفيضانات. وهذا يشير إلى مستوى من التنظيم الاجتماعي والهندسة يسبق عصره بكثير. تسبق هذه الهياكل الأهرامات المصرية وستونهنج بآلاف السنين. وعلى مدى آلاف السنين، سكنت أريحا ثقافات وحضارات مختلفة. أصبحت جزءًا من العالم الكنعاني، وغزاها بنو إسرائيل وفقًا للتقاليد التوراتية، ثم خضعت لاحقًا لسيطرة البابليين والفرس واليونانيين والرومان والبيزنطيين والخلافة الإسلامية. فترك كل عصر بصماته، مضيفًا طبقات إلى السجل الأثري والثقافي للمدينة. وعلى الرغم من فترات التدهور والدمار، لم تُهجر أريحا تمامًا. فقد ساهم موقعها الاستراتيجي بالقرب من مصادر المياه وطرق التجارة في ضمان بقائها. واليوم، تقع أريحا الحديثة إلى جانب آثارها القديمة، مما يجعلها واحدة من الأماكن القليلة على وجه الأرض التي يتعايش فيها الماضي والحاضر بوضوح تام.

صورة بواسطة A. Sobkowski على wikipedia

الأدلة الأثرية: ما تكشفه الأرض

يدعم العمل الأثري المكثف، ولا سيما الذي قامت به عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون في خمسينيات القرن الماضي، الادعاء بأن أريحا هي أقدم مدينة في العالم. كشفت حفرياتها في تل السلطان عن أكثر من 20 طبقة متعاقبة من الاستيطان، تمثل كل منها مرحلة مختلفة من مراحل السكن. من أهم الاكتشافات:

· برج العصر الحجري الحديث: برج حجري يبلغ ارتفاعه 28 قدمًا ويعود تاريخه إلى حوالي 8000 قبل الميلاد، وربما استُخدم للدفاع أو لأداء الطقوس الدينية أو للحماية من الفيضانات.

· أسوار التحصين: جدران حجرية سميكة تُشير إلى تخطيط حضري مبكر وعمل جماعي.

· مدافن وآثار: بقايا بشرية وأدوات وفخار تُقدم لمحة عن الحياة اليومية والمعتقدات والتقنيات التي استخدمها سكان أريحا القدماء.

أعادت هذه الاكتشافات التسلسل الزمني للتطور الحضري إلى الوراء، وتحدّت الافتراضات السابقة حول متى وأين ظهرت المدن لأول مرة. في حين أن مواقع أثرية أخرى مثل تشاتالهويوك قديمة جدًا، إلا أنها تفتقر إلى نفس مستوى التحصين والتعقيد الحضري الذي شهدته أريحا في بداياتها. ومع ذلك، من المهم الإشارة إلى أن لقب "أقدم مدينة" لا يزال محل جدل. يجادل بعض الباحثين بأن أريحا كانت أقرب إلى قرية كبيرة منها إلى مدينة حقيقية في مراحلها الأولى. ويشير آخرون إلى اكتشافات أحدث في أماكن مثل غوبكلي تيبي في تركيا، والتي، وإن لم تكن مدينة، تُظهر وجود مجتمعات معقدة حتى قبل ذلك. ومع ذلك، لا تزال أريحا المرشح الأقوى لأقدم مدينة مأهولة بالسكان في العالم، وهو ما يميزها في سجلات التاريخ البشري.

صورة بواسطة Daniel Ventura على wikipedia

أهمية أريحا: الإرث والدروس

أهمية أريحا تتجاوز عمرها الزمني لتغوص في جذور التحول البشري العظيم. فهي تُعدّ نقطة تحول محورية في الحضارة الإنسانية، تمثل الانتقال من حياة الترحال والصيد إلى الاستقرار الزراعي الدائم، ومن مجرد البقاء إلى بناء مجتمعات ذات نظم وعلاقات. تُظهر أن البشر الأوائل، حتى في بيئة وادي الأردن القاسية، وجدوا سبلًا للتكيف والابتكار والازدهار، مما يعكس العبقرية الفطرية في مواجهة التحديات البيئية. ثقافيًا، تحمل أريحا معنى دينيًا وتاريخيًا عميقًا يتردد صداه في الكتب السماوية. فقد وردت في الكتاب المقدس على أنها المدينة التي سقطت أسوارها بفعل تدخل إلهي عند دخول بني إسرائيل إلى أرض كنعان، كما تحتل مكانة بارزة في التراثين الإسلامي والمسيحي، حيث ترتبط بالأنبياء والمعجزات. هذا الإرث الروحي لا يزال يجذب الحجاج والسياح من أنحاء العالم، ويُضفي على المدينة طابعًا فريدًا من القداسة والرمزية. سياسيًا، تُعدّ أريحا جزءًا من الأراضي الفلسطينية الحديثة، وتحمل في طياتها دلالة عميقة على الهوية الوطنية الفلسطينية، باعتبارها موضع تقاطع بين التراث القديم والصراعات المعاصرة، مما يجعل منها شاهدة حية على أن التاريخ ليس مجرد سرد زمني، بل هو قوة تُشكّل الحاضر والمستقبل. من منظور أثري، لا تزال أريحا تُقدّم رؤى جديدة ومتجددة؛ إذ تُسهم الحفريات المستمرة، والتقنيات الحديثة مثل رادار اختراق الأرض والتأريخ بالكربون المُشع، في تحسين فهمنا لنمط الحياة الحضرية الأولى. في عالمٍ تزدهر فيه المدن وتنهار، لا تزال أريحا شامخة، تُعلّمنا عن مرونة الإنسان، وقوة التلاحم الاجتماعي، وجذور الحضارة العميقة. وسواء أكانت بالفعل تحمل لقب "أقدم مدينة" أم لا، فإن إرثها لا يُنكر، ويستمر في إلهام الباحثين والمفكرين وصنّاع القرار على حدٍّ سواء.

أكثر المقالات

toTop