button icon
صورة الخلفيّة
button icon
بطاقات دُعاء
button icon
رمضان مبارك
button icon
بطاقة الإجابة

المدائن .. عاصمة الساسانيين ودرة الأكاسرة في عراق العجم

ADVERTISEMENT

تقع مدينة المدائن على الضفة الشرقية لنهر دجلة، على بعد حوالي 30 كيلومترًا جنوب مركز العاصمة العراقية بغداد. تُعد المدينة من أبرز المواقع التاريخية التي لعبت دورًا محوريًا في تاريخ العراق القديم والوسيط، وقد ارتبط اسمها بالإمبراطورية الساسانية، حيث كانت بمثابة العاصمة الشتوية ومركزًا سياسيًا وثقافيًا هامًا للإمبراطورية.

بواسطة مكتبة الكونغرس - المصدر: ويكيبيديا

من بنى المدائن؟

المدائن (وتُعرف أيضًا بـ"طيسفون" أو "قطسيفون") شُيدت في الأساس من قبل الفرس الإخمينيين، لكن ازدهارها الحقيقي بدأ في عهد الإمبراطورية الفرثية، وتحديدًا مع نقل العاصمة من همدان إليها في القرن الثاني قبل الميلاد. ثم أصبحت مركزًا إمبراطوريًا رئيسيًا خلال العهد الساساني، حيث طورها ملوكهم وأضافوا إليها القصور والمعابد والمرافق الإدارية. وقد اعتُبرت المدائن عاصمة الإمبراطورية الساسانية لأكثر من أربعة قرون، حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي.

ADVERTISEMENT

سبب تسمية المدائن بهذا الاسم

اسم "المدائن" هو صيغة جمع لكلمة "مدينة"، وقد أطلقه العرب على هذا الموقع بعد الفتح الإسلامي، لأنه كان يتكوّن من عدة مدن متجاورة أو مناطق عمرانية متصلة تشكل معًا عاصمة كبرى. من أبرز هذه المدن كانت طيسفون (Ctesiphon) الفارسية، وسلوقيةاليونانية، وسيروس، وفيروز شابور. وقد تداخلت هذه المدن جغرافيًا وإداريًا فظهر اسم "المدائن" ليعبّر عن هذا الاتحاد العمراني.

النشأة والتاريخ المبكر

يرجع تاريخ تشييد مدينة المدائن إلى حدود القرن الثاني قبل الميلاد، وقد تم اختيار موقعها بعناية فائقة، حيث تقع على تقاطع طرق تجارية هامة وتطل على نهر دجلة، ما وفر لها ميزة استراتيجية مهمة. أُنشئت المدينة في البداية كمركز إداري وتجاري، ثم تطورت لاحقًا لتصبح مقرًا للحكم الساساني، ومكانًا لإقامة الملوك والأكاسرة.

ADVERTISEMENT

وقد حملت المدينة أسماء متعددة عبر التاريخ، منها اسمها الشائع "المدائن"، والذي يُعتقد أنه جاء من الجمع لكلمة "مدينة"، نظرًا لاحتوائها على عدة تجمعات عمرانية داخلية. أما في المصادر السريانية والفارسية القديمة، فقد وردت بأسماء مثل "طيسفون" أو "طيسفون-سلوكية"، في إشارة إلى الأحياء المختلفة التي كانت تضمها.

بواسطة وكالة فرانس بريس- المصدر: ويكيبيديا

أزهى عصور المدائن

عاشت المدائن أزهى عصورها في ظل الإمبراطورية الساسانية (224–651 م)، خاصة في عهد الملوك شابور الأول وكسرى الأول أنوشيروان وكسرى الثاني أبرويز. خلال هذه الفترة، تحولت المدينة إلى مركز للحكم والثقافة والتجارة، وكانت مقراً للقياصرة الساسانيين وموقعاً هاماً للعلم والفلسفة. بُني فيها قصر طاق كسرى، وهو رمز للعمارة الساسانية، وأقيمت فيها الحدائق الملكية والقاعات الضخمة. كما كانت المدينة ملتقى حضاريًا بين الشرق والغرب، خاصة في مجالات الطب والفلك والهندسة.

ADVERTISEMENT

أشهر ملوك الساسانيين

من أبرز وأشهر ملوك الدولة الساسانية الذين حكموا من المدائن:

أردشير الأول (224–241 م): مؤسس السلالة الساسانية، وضع أسس الدولة ونظامها  الإداري والديني.

شابور الأول (241–272 م) : قاد  حملات ناجحة ضد الرومان وأسر الإمبراطور فاليريان، ووسّع الدولة إلى أقصى  حدودها.

كسرى الأول أنوشيروان (531–579 م):  عُرف  بعدالته وحكمته، وشهد عصره إصلاحات إدارية كبيرة ونهضة علمية.

كسرى الثاني أبرويز (590–628 م):  من أكثر الملوك طموحًا، بلغت الدولة في عهده قمة نفوذها، لكنه انتهى في صراع مع  البيزنطيين وغزو العرب.

الأكاسرة وحياة البلاط في المدائن

في عهد الأكاسرة، تحولت المدائن إلى قلب نابض للإمبراطورية الساسانية. كانت المدينة مقر إقامة الملك وكبار المسؤولين، كما أنها ضمّت دوائر إدارية ومعاهد علمية ودينية، إلى جانب معابد الزرادشتية التي شكلت نواة الحياة الدينية.

ADVERTISEMENT

الملك كسرى أنوشيروان هو أحد أبرز حكام السلالة الساسانية الذين ارتبط اسمهم بمدينة المدائن. شهدت المدينة في عهده ازدهارًا عمرانيًا وثقافيًا هائلًا، واهتم ببناء القصور والحدائق، وتنظيم الحياة الاقتصادية والإدارية. وقد أُقيمت حول المدينة أسواق مزدهرة تجذب التجار من مختلف أنحاء الإمبراطورية، ما جعلها مركزًا اقتصاديًا هامًا.

كما احتضنت المدائن مجالس علمية وفلسفية، وازدهرت فيها الترجمة من اليونانية والهندية إلى الفهلوية، خصوصًا في مجالات الطب والفلك والرياضيات. وكان القصر الملكي يعج بالعلماء والفلاسفة الذين كانت لهم إسهامات كبيرة في الحضارة الإنسانية.

بواسطة ريبيكيا شفاب - المصدر: ويكيبيديا

العمارة والتخطيط العمراني في المدائن

تميّزت مدينة المدائن بطراز معماري متقدم يجمع بين الفخامة والوظيفية. كان تصميم المدينة يستند إلى نظام هندسي دقيق، حيث تم تقسيمها إلى أحياء متعددة لكل منها طابع خاص ووظيفة محددة، مثل حي القصور، حي الأسواق، وحي المعابد.

ADVERTISEMENT

بُنيت القصور من الطوب المشوي والمزجج، وزُينت جدرانها بالزخارف الجصية والنقوش الهندسية. أما الطرق فكانت مرصوفة بالحجارة، وامتدت قنوات المياه تحت الأرض لتوزيع المياه بين الأحياء. وقد أظهرت الحفريات الأثرية أن المدينة كانت تحتوي على نظام صرف صحي متطور نسبيًا.

ومن المعالم المعمارية الأخرى التي كانت تحيط بالطاق، المرافق الملحقة مثل الحمامات الملكية، وغرف الاستقبال، ومخازن الطعام. كما اكتُشفت أسس لمبانٍ كانت تُستخدم كمدارس أو أماكن لتعليم الكهنة، وهو ما يعكس الثراء الثقافي والتعليمي للمدينة.

المدائن بعد الفتح الإسلامي

شهدت المدائن تغيرًا كبيرًا بعد الفتح الإسلامي، إذ دخلها المسلمون في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتحديدًا في معركة نهاوند وما تلاها من توسع إسلامي. وقد أُعجب المسلمون بعظمة المدينة، ودوّن المؤرخون أوصافًا دقيقة لقصورها وحدائقها.

ADVERTISEMENT

استُخدمت العديد من مباني المدينة كمقار إدارية للدولة الإسلامية الوليدة، كما جرى تحويل بعض المعابد الزرادشتية إلى مساجد. وعلى الرغم من أن المدينة فقدت تدريجيًا مكانتها كعاصمة، إلا أن الاستيطان فيها استمر لعدة قرون.

ومع الزمن، تعرضت المدينة للإهمال والتدمير بفعل العوامل الطبيعية والبشرية، لا سيما خلال فترات الغزو المغولي والصفوي. وقد ساهم ذلك في طمس الكثير من معالمها، ولم يتبقَ منها اليوم سوى الطاق وبعض الأسس الحجرية لمبانٍ أخرى.

أشهر آثار المدائن الباقية

رغم مرور قرون على ازدهار المدائن، ما تزال آثارها شاهدة على عظمة الحضارات التي تعاقبت عليها، وخاصة الحضارة الساسانية. إليك أبرز المعالم الأثرية التي بقيت منها حتى اليوم:

طاق كسرى: رمز العمارة الساسانية

يُعد طاق كسرى، أو ما يُعرف أيضًا بـ"إيوان المدائن"، أبرز معلم شاخص في المدينة حتى يومنا هذا. يقع الطاق على مقربة من نهر دجلة، ويُعتقد أن بناؤه يعود إلى منتصف القرن الثالث الميلادي في عهد كسرى الأول (أنوشيروان)، أحد أعظم ملوك الإمبراطورية الساسانية. الطاق هو جزء من قصر كبير كان يضم البلاط الملكي ومراكز الحكم.

ADVERTISEMENT

الطاق مبني بالكامل من الآجر (الطوب المشوي)، ويُعد من أكبر الأبنية المشيدة بهذه المادة في العالم. يبلغ ارتفاعه حوالي 37 مترًا، وعرض فتحته حوالي 25 مترًا، وعمقه نحو 50 مترًا. يتميز بأسلوب معماري فريد يُظهر تطورًا واضحًا في استخدام الإيوان كعنصر معماري، وهي فكرة عراقية قديمة طُورت عبر العصور.

وقد تأثرت فكرة الإيوان بالعمارة الآشورية والبابليّة، حيث كانت مداخل القصور والمعابد تتزين بواجهات ضخمة ذات أقواس نصف دائرية، إلا أن الساسانيين طوروها إلى مستوى أعلى، فحولوا الإيوان إلى مساحة مغلقة ذات طابع رمزي وديني وسياسي في آنٍ واحد.

بواسطة فاغكم - المصدر : ويكيبيديا

بقايا القصر الساساني

بالقرب من طاق كسرى، توجد بقايا مبانٍ حجرية وطينية يُعتقد أنها كانت جزءًا من مجمع القصر الساساني. وتُظهر تلك البقايا:

· غرفًا ذات أسقف مقببة

ADVERTISEMENT

· أعمدة ضخمة

· آثار لبلاط ملون وزخارف جصية

تُشير هذه المعالم إلى وجود هندسة معمارية متقدمة تتناسب مع هيبة البلاط الملكي.

موقع مدينة سلوقية

إلى الغرب من المدائن، وعلى الضفة المقابلة لنهر دجلة، تقع أطلال مدينة سلوقية، التي كانت العاصمة الهلنستية للإمبراطورية السلوقية قبل أن يسيطر عليها الفرثيون. وقد كُشف فيها عن:

· أنقاض مسارح وساحات يونانية

· نقوش حجرية بكتابات يونانية

· عملات ذهبية وفضية تعود لفترات متباينة

قبور وكتابات حجرية

تنتشر في منطقة المدائن مقابر تعود للعصر الساساني المتأخر، وبعضها نُقشت عليه كتابات بالفهلوية (اللغة الساسانية)، وأخرى تمثل شواهد قبور مزينة بزخارف دينية أو رمزية.

آثار بيزنطية وإسلامية مبكرة

رغم هيمنة الطابع الساساني، فقد أظهرت التنقيبات الأثرية وجود طبقات أقدم وأحدث تشمل:

· آثار بيزنطية تعود لفترات الحروب مع الإمبراطورية الرومانية الشرقية

ADVERTISEMENT

· شواهد لمبانٍ ومواقع استخدمها المسلمون بعد الفتح، مثل المساجد الأولى والمعسكرات

أهمية المدائن في التاريخ العراقي والإسلامي

لا تكمن أهمية مدينة المدائن فقط في كونها مركزًا حضاريًا للفرس الساسانيين، بل في كونها جسرًا حضاريًا وثقافيًا بين العصور القديمة والإسلامية. كانت المدينة شاهدة على تحولات كبرى في تاريخ العراق، من السيطرة الساسانية إلى الحكم الإسلامي، ومن الوثنية إلى التوحيد.

وقد تركت المدائن أثرًا في الذاكرة الإسلامية، لا سيما في قصص الصحابة والتابعين الذين زاروها أو أقاموا بها. كما ارتبطت المدينة بقصص دينية وأدبية مثل قصة "سقوط إيوان كسرى" التي وردت في بعض الروايات الإسلامية، وهي رمزية لسقوط الجبروت الفارسي أمام الإسلام.

في العصر الحديث، أُجريت بعض الحفريات الأثرية لكشف ما تبقى من معالم المدينة، وقد طالبت جهات متعددة بترميم الطاق والمحافظة عليه باعتباره أحد الرموز المعمارية الكبرى في العراق.

ADVERTISEMENT

خاتمة

مدينة المدائن ليست مجرد أطلال من الماضي، بل هي سجل حي لتاريخ حضاري غني يمتد لأكثر من ألفي عام. كانت عاصمة لأحد أعظم الإمبراطوريات الشرقية، ومركزًا للفكر والدين والإدارة. ومن خلال طاقها الشامخ، لا تزال تحكي للعالم قصة فخر وعظمة، تحتاج اليوم إلى جهود مكثفة للحفاظ عليها، وتعريف الأجيال القادمة بأهميتها في تاريخ العراق والمنطقة.

بإحياء هذا التراث، وتفعيل دوره في السياحة الثقافية، يمكن أن تُعيد المدائن تألقها في الذاكرة الوطنية، وتُسهم في استعادة الهوية الحضارية التي لطالما ميّزت العراق عن سواه من الأمم.

toTop