لا يوجد إجماع حول ماهية النوم أو سبب وجوده

ADVERTISEMENT

يستسلم مليارات البشر كل ليلة للنوم، وهي حالة مألوفة وضرورية لدرجة أنها تبدو لا تقبل الشك. ومع ذلك، فرغم قرون من البحث، لا يزال العلم عاجزًا عن الاتفاق على ماهية النوم الأساسية أو سبب وجوده. إنه أحد أكثر السلوكيات شيوعًا في مملكة الحيوان، حيث يُلاحظ في كائنات متنوعة مثل قنديل البحر والطيور والبشر. لكن غرضه لا يزال غامضًا. فالنوم ليس مجرد راحة. يظل الدماغ نشطًا، ويتنقل بين مراحل النوم الخفيف والنوم العميق وحركة العين السريعة، ولكل منها أنماط مميزة من النشاط العصبي. تسترخي العضلات، ويتلاشى الوعي، وتظهر الأحلام، ومع ذلك يستمر الجسم في تنظيم درجة حرارته، وإصلاح الأنسجة، وترسيخ الذكريات. المفارقة مذهلة: يستهلك النوم ما يقرب من ثلث حياتنا، ومع ذلك لا تزال وظيفته التطورية موضع نقاش. يجادل بعض الباحثين بأن النوم هو شكل من أشكال التدبير المنزلي العصبي، حيث يزيل النفايات الأيضية ويعيد ضبط الوصلات المشبكية. ويقترح آخرون أنه آلية لترسيخ الذاكرة، وتنظيم المشاعر، أو الحفاظ على الطاقة. لكن لا تُفسر أيٌّ من هذه النظريات بشكلٍ كامل سبب ثبات النوم بشكلٍ كبير لدى الأنواع، أو لماذا يُؤدي الحرمان منه إلى هذا الخلل الوظيفي السريع والشديد. النوم ليس اختياريًا، بل هو أساسي. ومع ذلك، يبقى جوهره لغزًا.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Andrea Piacquadio على pexels

نظريات متنافسة وأسئلة عالقة

تزخر الأدبيات العلمية حول النوم بفرضيات، لكن لم تُجمع أيٌّ منها على أيٍّ منها. تفترض فرضية التوازن المشبكي أن النوم يُقلل من حجم الروابط العصبية التي تعزّزت أثناء اليقظة، مما يُحافظ على الطاقة ويمنع التشبع. يُفسر هذا النموذج لماذا يبدو أن التعلم والتحفيز الحسي خلال النهار يزيدان الحاجة إلى النوم، ولماذا يُضعف الحرمان من النوم الأداء الإدراكي. ومع ذلك، لا يُفسر استمرار النوم لدى الحيوانات ذات الأدمغة الضئيلة أو قدرة التعلم المحدودة. تُشير نظرية أخرى، وهي نموذج الجهاز الغليمفاوي، إلى أن النوم يُسهّل التخلص من الفضلات العصبية السامة، مثل بيتا أميلويد، عبر قنوات مُتخصصة في الدماغ. اكتسبت هذه الفكرة زخمًا نظرًا لتداعياتها على الأمراض العصبية التنكسية مثل الزهايمر. ومع ذلك، لا يزال توقيت وآليات هذا التطهير محل خلاف، وليس من الواضح ما إذا كان سببًا أم نتيجة للنوم. تقترح النظريات التطورية أن النوم تطور كسلوك وقائي، يُبقي الحيوانات خاملة خلال فترات الخطر أو شح الموارد. لكن هذه النظرة تكافح لتفسير سبب كون النوم ينطوي على هذا الضعف العميق - فقدان الوعي، وعدم الحركة، وانخفاض الاستجابة - والذي يبدو غير متكيف في البيئات العدائية. حتى تعريف النوم هو محل جدل. هل هو سلوك، أم حالة دماغية، أم ضرورة فسيولوجية، أم مزيج من الثلاثة؟ يعكس غياب الإجماع تعقيد النوم نفسه - ظاهرة تقاوم الاختزال في وظيفة أو إطار عمل واحد.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Acharaporn Kamornboonyarush على pexels

حدود القياس والمعنى

يكمن جزء من صعوبة فهم النوم في محدودية أدواتنا ومفاهيمنا. فالنوم ليس حالةً متجانسةً، بل عمليةٌ ديناميكيةٌ ذات مراحل تختلف في مدتها وشدتها ووظيفتها. يستطيع تخطيط كهربية الدماغ (EEG) قياس موجات الدماغ، لكنه لا يستطيع التقاط التجربة الذاتية للأحلام أو التحولات الدقيقة في الوعي. يكشف التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي عن أنماط تدفق الدم، لكنه لا يستطيع تفسير سبب احتفاظ بعض الذكريات بينما تتلاشى أخرى. تُظهر الدراسات السلوكية وجود ارتباطات بين النوم والأداء، لكنها لا تستطيع عزل السببية. علاوةً على ذلك، يتأثر النوم بشدة بالسياق - فالعمر والثقافة والبيئة والبيولوجيا الفردية تُشكل جميعها كيفية نومنا وتوقيته. وقد أضاف ظهور أجهزة تتبع النوم بياناتٍ جديدةً، ولكنه أيضًا أثار لبسًا جديدًا، حيث غالبًا ما تفشل مقاييس مثل "كفاءة النوم" و"نسبة حركة العين السريعة" في عكس الراحة الذاتية. يقع علم النوم بين الدقة والغموض، بين الأنماط القابلة للقياس الكمي والتجارب غير القابلة للقياس الكمي. ولطالما لاحظ الفلاسفة أن النوم يشغل حيزًا حدوديًا - لا حياة ولا موت، لا وعي ولا لاوعي. إنه عتبة، توقف، انسحاب من عالم اليقظة. ولعل هذا ما يجعله يتحدى التفسير البسيط. النوم ليس مجرد حدث بيولوجي، بل هو لغز ميتافيزيقي، نزول يومي إلى المجهول.

ADVERTISEMENT
صورة بواسطة Ivan Oboleninov على pexels

العيش مع اللغز

إن غياب الإجماع على غاية النوم ليس فشلًا للعلم، بل هو انعكاس لعمقه واتساعه. بعض الألغاز لا يُقصد حلها بسرعة أو اختزالها في تفسير واحد. إنها تتطلب الصبر والتواضع والاستعداد لاحتضان التعقيد والتناقض. قد يكون النوم أحد تلك الألغاز - ظاهرة تمس كل جانب من جوانب الحياة، من الوظائف العصبية إلى الأحلام والوعي، لكنها تقاوم التعريف النهائي وتفلت من التفسير الحاسم. يدعو غموضه إلى التأمل في معنى الراحة، والحلم، والنسيان، والتجديد، والانفصال المؤقت عن الذات والواقع. إنه يذكرنا بأن ليست كل المعرفة تجريبية، وأن بعض الحقائق يشعر بها لا تُقاس، وتُعاش لا تُشرح. وفي عالمٍ مهووسٍ بالإنتاجية والتحسين، يُمثّل النوم تمردًا هادئًا - مساحةً تُفقد فيها السيطرة ويُعاد فيها تصور الوقت، والهوية، والحدود بين الداخل والخارج. إن عدم فهمنا التام للنوم لا يُقلل من قيمته، بل على العكس، يُعمّق أهميته ويمنحه بعدًا وجوديًا يتجاوز الوظيفة البيولوجية. فهو لا يُصبح مجرد ضرورة بيولوجية، بل دعوةً فلسفيةً للتوقف، والتساؤل، والاستماع إلى الإيقاعات التي تُحكمنا بما يتجاوز إرادتنا الواعية. ومع استمرار العلم في استكشاف جوانب النوم، قد يكشف عن رؤى جديدة في الوعي والذاكرة وطبيعة الوجود، وربما يعيد تعريف العلاقة بين الجسد والعقل. ولكن حتى لو ظلّ النوم مجهولًا جزئيًا، فسيستمر في تشكيل حياتنا بطرقٍ تتجاوز التفسير، وتُعيدنا يوميًا إلى نقطة البداية. نحن ننام ليس لأننا نفهمه، بل لأننا مُجبرون على ذلك، ومأخوذون به، ومحتاجون إليه. وفي هذا الاستسلام يكمن نوعٌ من الحكمة - حكمة التخلي، والثقة بالظلام، والانفتاح على المجهول، والاستيقاظ للبدء من جديد.

toTop