طوال معظم القرن العشرين، كانت مصر القلب النابض للسينما العربية. من الأربعينيات إلى السبعينيات، كانت استوديوهات القاهرة تعج بالحياة، وتنتج أفلامًا حددت الاتجاهات الثقافية في جميع أنحاء الوطن العربي. أصبح ممثلون أسطوريون مثل عمر الشريف وفاتن حمامة وعادل إمام أسماء مألوفة خارج حدود مصر، وتجاوزوها إلى العالمية. لم يقتصر دور السينما المصرية على الترفيه فحسب، بل شكلت أيضًا الهوية الإقليمية، ووضعت معايير للسرد القصصي والموسيقى والتعليق الاجتماعي.
لكن العصر الذهبي تلاشى. أدت الاضطرابات السياسية وتغير الأولويات الاقتصادية وظهور مراكز ترفيهية منافسة في دول عربية أخرى إلى تراجع الإنتاج السينمائي المصري تدريجيًا. أدى تدهور الاستوديوهات، وتقادم المعدات، والقرصنة، ونقص تمويل المؤسسات السينمائية إلى تآكل ما كان يومًا صناعة مزدهرة. بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تضاءل تأثير السينما المصرية العالمي بشكل كبير.
قراءة مقترحة
والآن، في عام 2025، يجري تنفيذ استراتيجية وطنية جريئة ومنسقة لعكس هذا التراجع — استراتيجية تجمع بين الحفاظ على التراث والاستثمار في البنية التحتية المستقبلية. نتحدث في هذه المقالة عن هذه الاستراتيجية.
الممثلة الأسطورية فاتن حمامة 1963
كشفت وزارة الثقافة، بالتعاون مع الشركة القابضة لإدارة الأصول الثقافية والسينمائية التي تم تمكينها حديثًا، عن مبادرة متعددة الجوانب لإعادة صناعة السينما المصرية إلى مكانة بارزة على الصعيد الدولي. تتناول ركائز الخطة كلاً من الجانب المادي (الاستوديوهات المادية والمسارح ومرافق الإنتاج) والجانب المعنوي (التراث والمواهب وقنوات التوزيع) للسينما المصرية.
يعد إعادة تطوير الاستوديوهات السينمائية المملوكة للدولة أمرًا أساسيًا لإحياء الصناعة. تخضع مراكز الإنتاج التاريخية ــــــ التي كانت في يوم من الأيام مراكز صناعة الأفلام العربية ــــــ إلى عملية تجديد كاملة. ولا يقتصر الأمر على مجرد أعمال تجميلية؛ بل تجهّز المرافق بأجنحة حديثة لما بعد الإنتاج وأنظمة تصنيف الألوان وغرف مزج الصوت بمعايير دولبي وتقنية تحرير رقمية متقدمة. وتركّب أنظمة التحكم في المناخ لحماية بكرات الأفلام الحساسة والمعدات الرقمية، بينما تضمن تحسينات السلامة من الحرائق الحفاظ على الأرشيف الذي لا يمكن تعويضه.
إلى جانب الإنتاج، يدرك مشروع إحياء السينما في مصر أهمية مساحات العرض. ترمّم دور السينما الشهيرة، ويُعاد فتحها؛ فبعضها مغلق منذ أكثر من 25 عامًا. لن تعرض هذه الأماكن الأفلام الجديدة فحسب، بل ستكون أيضًا مساحات ثقافية لعرض الأفلام القديمة وحلقات النقاش والفعاليات السينمائية المجتمعية.
يعكس إعادة توظيف المباني الثقافية الخاملة استراتيجية أوسع نطاقًا لتنشيط المناطق الحضرية، وإعادة السينما إلى الحياة اليومية للمصريين.
في حين أن التقانة الحديثة ضرورية للأفلام المستقبلية، يظل الماضي السينمائي لمصر كنزًا ثقافيًا، ومصدرًا محتملاً للدخل. أطلق مركز ترميم التراث في مدينة الإنتاج الإعلامي، بالشراكة مع شركة إدارة الأصول السينمائية، برنامجًا طموحًا للترميم الرقمي. باستخدام تقنيات إعادة الترميز عالية الدقة 4K، تُضَخ حياة جديدة في أفلام كلاسيكية مثل: الزوجة الثانية، والخطيئة، والقاهرة 30، وزوجتي والكلب، والرجل الذي فقد ظله...
ملصق فيلم الرجل الذي فقد ظله 1968
سيتم إصدار الأعمال المرممة في عروض سينمائية فعليّة وعبر الإنترنت من خلال قناة يوتيوب رسمية وموقع إلكتروني مخصص. وسيتم تضمين تدابير مكافحة القرصنة في عملية التوزيع، لحماية الملكية الفكرية وضمان وصول الإيرادات إلى أصحاب الحقوق الشرعيين.
لتعزيز الترويج لهذه الكنوز المرممة، تطلق الحكومة مهرجانًا وطنيًا مخصصًا للأفلام المرممة، يتضمن عروضًا عامة ومناقشات أكاديمية وجلسات أسئلة وأجوبة مع النقاد والمؤرخين وأعضاء طاقم العمل أو الممثلين الباقين على قيد الحياة.
ملصق فيلم المماليك 1965
من الابتكارات المهمة في استراتيجية إحياء الصناعة إنشاء شركة إنتاج وطنية. وعلى عكس الاستوديوهات التقليدية التي كانت تديرها الحكومة في الماضي، ستعمل هذه الشركة وفق نموذج احترافي قائم على أساس تجاري، وتقدم خدمات تنافسية للمخرجين المحليين والدوليين على حد سواء.
وستشمل هذه الخدمات ما يلي:
• البحث عن مواقع التصوير والحصول على التراخيص
• تأجير الطاقم الفني والمعدات
• الوصول إلى استوديوهات التسجيل الصوتي
• التحرير وتصحيح الألوان والمؤثرات البصرية
• المساعدة في التوزيع في الأسواق الإقليمية والعالمية
والهدف من ذلك هو جعل مصر مركزًا شاملاً للإنتاج.
دعا الرئيس المصري إلى عقد مؤتمر وطني رفيع المستوى حول مستقبل صناعة السينما والتلفزيون في مصر. سيجمع هذا المؤتمر ليس فقط المخرجين والممثلين، بل أيضاً علماء النفس والاجتماع والاقتصاد، ما يعكس فهم أن السينما قوة فنية واجتماعية في آن واحد.
ويتماشى هذا النهج مع استراتيجية ”عودة ماسبيرو“ الأوسع نطاقًا، التي سميت على اسم المقر التاريخي للإذاعة الحكومية، لإعادة ترسيخ مكانة مصر كقوة إعلامية في العالم العربي.
على الصعيد الدولي، يعمل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على تعميق الشراكات مع صناعات السينما العالمية. تشير التعاونات الأخيرة مع مهرجانات السينما الصينية إلى صفقات إنتاج وتوزيع مشتركة في المستقبل قد تفتح أبواب السينما المصرية لجمهور جديد واسع.
مبنى اتحاد الإذاعة والتلفزيون – ماسبيرو
في حين أن مشاريع البنية التحتية حيوية، فإن الانتعاش يعتمد أيضًا على موجة جديدة من صانعي الأفلام المصريين الذين يكتسبون شهرة في الخارج. عرض المخرج مراد مصطفى فيلمه الطويل ”عائشة لا تستطيع الطيران“ لأول مرة في قسم ”نظرة ما“ في مهرجان كان السينمائي عام 2025. وقدم المخرج السويدي المصري طارق صالح فيلم ”نسور الجمهورية“، وهو دراما باللغة العربية ذات طابع سياسي، إلى مهرجان كان في نفس العام، حيث تنافس على جائزة السعفة الذهبية.
تحافظ هذه النجاحات على مكانة مصر السينمائية على الصعيد الدولي، وتضمن أنه عند اكتمال مرافق الإنتاج الجديدة، سيكون هناك جمهور عالمي مستعد لتلقي القصص المصرية.
بالتوازي مع النهضة التي تقودها الدولة، تواصل السينما المستقلة في مصر ازدهارها، غالبًا بموارد ضئيلة. لا تزال سينما ”زاوية“في القاهرة مركزًا لعرض الأفلام الوثائقية والقصيرة والفنية، وتدعم المخرجين الناشئين من خلال التوجيه والترويج. كما أن ”سينماتك“، وهي مبادرة مستقلة أخرى، توفر ورش عمل وقاعة عرض ومكتبة أفلام وحتى مختبرًا للمخرجين الذين يعملون باستخدام الأفلام التقليدية.
إذا أدمجت خطة الدولة لإحياء السينما هذه المساحات الشعبية في الشبكة الوطنية، يمكن لمصر أن تحقق توازنًا صحيًا بين الأفلام التجارية الناجحة وأفلام المهرجانات والأفلام التجريبية.
سينما زاوية: نوع مختلف عن دور العرض التجارية
بالإضافة إلى الجانب الاقتصادي، لطالما كانت السينما واحدة من أكثر أشكال القوة الناعمة فعالية في مصر. من الكوميديا الاجتماعية الساخرة في الستينيات إلى الدراما السياسية في السبعينيات، عكست الأفلام المصرية الهوية العربية وأثرت عليها بشكل عميق.
كما أن صناعة السينما المزدهرة تدعم السياحة، وتحفز الصناعات ذات الصلة (الموسيقى، والأزياء، والتصميم)، وتعزز التفاهم بين الثقافات في وقت تهيمن فيه الأصوات الأجنبية على الروايات عن الشرق الأوسط.
إن إحياء صناعة السينما في مصر هو أكثر من مجرد إحياء للذكريات عن عصر ذهبي. إنه استراتيجية طموحة تركز على المستقبل وتجمع بين الحفاظ على التراث السينمائي والبنية التحتية المتطورة والتواصل الدولي.
إذا نجحت هذه الاستراتيجية، فقد تعيد لمصر دورها كعاصمة ثقافية وسينمائية للعالم العربي، وهو المنصب الذي احتلته لعقود. الكاميرات تعمل مرة أخرى في القاهرة، وهذه المرة، العالم يراقب.
تدرارت أكاكوس: متحف الزمن المنحوت في أعماق الصحراء
أصغر الكويكبات التي تم اكتشافها على الإطلاق في الحزام الرئيسي للنظام الشمسي
أفضل 5 أماكن أثرية سياحية في لبنان
كيف تبدأ يومك بطاقة إيجابية في 5 خطوات
نانسي عجرم: المغنية اللبنانية الذهبية الشهيرة ذات الوجه الطفولي
الحمض النووي يُظهر السبب الحقيقي وراء مقتل قوات نابليون
7أسرار للتمتع بالسفر وحيدا
جزر فارو: حيث يلتقي المحيط بالجبال في مشهد أسطوري
أصفهان بين الماضي والمستقبل
سلوكيات غير عادية تجعل الناس يحترمونك أكثر