نفخ الزجاج السوري التقليدي: حرفة خالدة

تُعدّ صناعة الزجاج التقليدية في سوريا جزءاً مهماً من التراث الثقافي الغني، حيث لعبت دوراً محورياً في تطوير تقنيات الزجاج منذ أقدم العصور. وكشفت الحفريات أن بدايات هذه الصناعة تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتشير المكتشفات في مواقع مثل تل براك إلى أن سوريا كانت من أوائل المناطق التي مارست صناعة الزجاج، عبر إنتاج خرز وأوانٍ صغيرة تؤكد مهارة الحرفيين القدامى.

لعب الزجاج دوراً مركزياً في تقدم الحضارة، بداية من استخدامه في الحلي والتحف الزخرفية، إلى اعتماده لصنع أدوات علمية أسهمت في تطوير البصريات والكيمياء. وابتكار المرآة الزجاجية في العصر الروماني ثم العدسات في العصور الوسطى يعكس الأثر العميق لهذه المادة على الحياة البشرية. ومع الثورة التقنية الحديثة، تُستخدم ألياف الزجاج في البنية التحتية لشبكات الإنترنت، مما يُبرز استمرارية أهميته.

شاركت العديد من الحضارات، كالمصرية والرومانية والإسلامية، في تطوير هذه الصناعة. ففي العالم الإسلامي، بلغ فن الزجاج ذروته من خلال إنتاج قطع مزخرفة ومطلية بالمينا والتذهيب. وقد تميزت كل حضارة بإسهامات فنية وتقنية أثرت التراث العالمي للزجاج. ووصل هذا الإرث إلى تحف مشهورة مثل مزهرية بورتلاند والزجاج المزخرف في مساجد القاهرة.

في سوريا، ساعد الموقع الجغرافي وتوافر الموارد مثل الرمل والنطرون على ازدهار الصناعة. وأبرزت الاكتشافات في أوغاريت تقنيات مثل تشكيل اللبّ ونفخ الزجاج بالقوالب. أما في العصور الوسطى، فاشتهرت حلب بابتكار تصميمات جديدة مثل مخروط الصنوبر الزجاجي، كما أتقن السوريون فن طلاء المينا لإنتاج قطع جميلة ومتينة.

خلال العصر الذهبي الإسلامي، لمع نجم الزجاج السوري مع إنتاج مصابيح مزيّنة بالمينا والتذهيب استُخدمت في المساجد. وتؤكد هذه التحف رفيعة المستوى المكانة المركزية لسوريا كمركز فنّي رئيسي في صناعة الزجاج. ورغم التراجع الذي شهدته الصناعة في القرن التاسع عشر، فقد بدأت مؤخراً مرحلة إحياء، بفضل جهود ورش مثل "Le Verre de Damas"، التي تسعى لنقل المهارات إلى أجيال جديدة والترويج للزجاج السوري في محافل دولية.

تجسّد صناعة الزجاج السورية تراثاً ثقافياً عميقاً وهوية وطنية متجذّرة، لتبقى شعلة الإبداع حية تأسر قلوب العالم وتعبر الأزمنة بالأناقة والدقة الفنية.