الخليل/البلدة القديمة في فلسطين: لماذا هي وجهة لا بد من زيارتها؟

ADVERTISEMENT

تقع البلدة القديمة في الخليل، المعروفة بالعربية باسم البلدة القديمة–الخليل (Hebron/Al‑Khalil Old Town)، في قلب مدينة الخليل بالضفة الغربية. تُعدّ واحدة من أقدم المدن المأهولة باستمرار في العالم، ويعود تاريخها إلى آلاف السنين قبل الميلاد. تم اعتمادها كموقع تراث عالمي من قبل اليونسكو عام 2017، وهي تُصنّف أيضًا على قائمة التراث المهدد بالخطر بسبب الاحتلال والتوترات المستمرة.
تنبعث روعة البلدة القديمة من مزيجها الفريد بين المعالم الدينية المرتبطة بالديانات التوحيدية الثلاثة، العمارة المملوكية والعثمانية الأصيلة، والأسواق التقليدية النابضة بالحياة. يتركز فيها المسجد الإبراهيمي فوق مغارة الماكبيلة – موقع دفن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وأزواجهم، مما يجعلها مقصدًا للعديد من الحجاج والزوار من الشرق والغرب.
البلدة القديمة ليست متحفًا ميتًا، بل حيّة، تُحيا بعائلات تقطن بين أزقتها، وأسواق تفتن الحواس، وحرف تقليدية صمدت عبر قرون، من الزجاج الدمشقي الفريد إلى الخزف المحلي.
في هذه المقالة نتناول أربعة محاور رئيسية: جذورها التاريخية العميقة، معالمها الروحية والدينية، الحياة الثقافية الحرفية، وجهود إعادة الإحياء العمراني. نختم بتسليط الضوء على سبب أهمية زيارتها اليوم كوجهة ثقافية إنسانية لا تُعوّض.

ADVERTISEMENT

الجذور التاريخية العريقة

يُعتقد أن أول مستوطنة للـ"الخليل القديمة" كانت في تل الرُميدة، على بُعد مئتي متر غرب الموقع الحالي، حيث تأسس كمدينة كنعانية قديمة، ثم تطوّر موقعها الحالي خلال العصرين اليوناني والروماني في القرون ما بين الثالث إلى الأول قبل الميلاد.
خلال العصر العباسي (حوالي سنة 750 ميلاديًا) تحوّلت البلدة إلى محور المدينة بأكملها، وبُنيت حول المغارة التي صُنِعت من عهد هيرودس لحماية قبور الآباء والإباء، وتحولت لاحقًا لشكل ديني مختلف في ظل التحوّلات السياسيةّ الدينية بين الفترات الصليبية والإسلامية.
في عهدي المماليك والعثمانيين (1250–1917م)، شُيّدت معظم البنى الحجرية باللون الأصفر المائل للكريمي، واعتمدت شبكة معقدة من الأزقة التي تخفي خلفها مساحات اجتماعية وسكنية، وفق نموذج "هوش" يضم بيوت عشائرية حول ساحة داخلية مشتركة.
البلدة القديمة صمدت رغم الاحتلال والصراعات، لكن بنيتها العمرانية نجت برغم هجر السكان وتدهور الخدمات، مما جعلها هدفًا رئيسيًا لمشاريع الترميم التي بدأت في التسعينيات عبر لجنة إعادة تأهيل الخليل لإحياء هذا الجزء التاريخي والتصدي لمحاولات الاستيلاء.

ADVERTISEMENT
بواسطة Zairon على Wiki

منظر من الجزء الإسلامي في الخليل إلى الجزء اليهودي

المعالم الروحية والدينية

تُعدّ المغارة الإبراهيمية والمسجد الإبراهيمي عشًا مقدسًا للديانات الثلاث: الإسلامية والمسيحية واليهودية، وهو الجزء الذي يُشكّل محور البلدة القديمة. يُعتقد أن إبراهيم إسحاق ويعقوب وزوجاتهم مطمورون في هذا الموقع، وقد تحوّل بناء مغارة هيرودس إلى كنيسة أثناء الحروب الصليبية ثم أصبح مسجدًا بعد استعادة صلاح الدين عام 1187م.
هذا الموقع جعل من الخليل مقصدًا للحج الديني المتعدد، وزادت فيه الكنيسة الروسية وكنائس أخرى بين القرنين التاسع عشر والعشرين، قبل أن تختفي أغلبيتها مع بدايات القرن العشرين، لتبقى بعض المباني شاهدة على قرون من التلاقي الديني بين المسيحيين والمسلمين واليهود.
بالإضافة إلى ذلك، تصطف في البلدة القديمة زاويتان صوفيتان تم تجديدهما: زاوية الشيخ شبلي وزاوية الزاهد، حيث كانت مراكز للتعليم الديني والتلاقي الثقافي خلال العهد المملوكي، ويجدر بالزائر الوقوف أمام جمال هندستها الروحية المعمارية .
هنا، يلتقي الزائر بالحضور الروحي عبر بوابات مسجد خانقاه وزوايا تسودها التأملات والتاريخ في شعاب ذلك الحيّ العتيق.

ADVERTISEMENT
بواسطة وحيد القيسي على Wiki

المسجد الإبراهيمي في الخليل بمنارة مملوكية واضحة

الحياة الحرفية والثقافة المحلية

البلدة القديمة الخليل نابضة بالحياة عبر حِرَف لها شهرتها العالمية، مثل الزجاج الدمشقي والخزف التقليدي. الزجاج هنا يُصنّع منذ العصر الروماني، وتُكتب عنه سجلات زائرين أوروبيين يعودون إلى القرن الرابع عشر، ويُعرض كقطع فنية في المتاحف حول العالم.
أسواق البلدة (السوق أو الكَسْبَة) تمتد عبر أزقة معقّدة، وتقدم للزائرين سلعًا مثل التوابل، الخام، الأقمشة المطرّزة، والعطور المحلية، ويزيد الروائح والرؤية بريقًا لتجربة السياحة الثقافية الحقيقية.
يشمل التطبيق التراثي أيضًا مشاهدة معاصر الزيتون والطحينة القديمة (مثل معاصر إقنايبي)، وبقايا حمّام إبراهيم الخليلي الذي تحول إلى متحف يوضّح تطور العمارة والأنظمة الاجتماعية في العصر العثماني والمملوكي.
عبر الأسبوع تتخلّل الأسواق ندوات شعبية، ومنتجات يدوية تصنعها العائلات، وتُقام مهرجانات مثل مهرجان العنب، إذ تشتهر الخليل بإنتاج العنب (بكميات تصل إلى آلاف الأطنان) وتحويله إلى مربى وعصائر محلية شهيرة.

ADVERTISEMENT
بواسطة Roaa amer zatari على Wiki

السوق التقليدي في أحد أزقة البلدة القديمة

جهود الإحياء العمراني والحياة اليومية الحاضرة

بدأت لجنة إعادة تأهيل الخليل نشاطها في أواخر التسعينيات بهدف إنقاذ البلدة القديمة من الانهيار العمراني والتهميش الاجتماعي، خصوصًا بعد النزاعات وما تلاها من هجرة للسكان. تهدف المشاريع لإعادة السكان وفتح المحلات وترميم المنازل والشوارع بأسلوب يحافظ على الطابع الأصلي.
نجحت الخطة في ترميم أكثر من ألف منزل، إعادة بناء الشوارع المرصوفة، وإنشاء متحف البلدة القديمة وفندق "فلسطين" التراثي، وتحسين الخدمات وإنشاء مدارس ومحلات تجارية مما أسّس حركة اقتصادية متجددة في قلب المدينة.
كما أسست الأكاديمية المهنية لتعليم مهارات الترميم والحرف التقليدية لأبناء البلدة، وهذا يعزز هوية المدينة ويضمن استدامة الحرفية وتراث العمران التقليدي.
على الرغم من ذلك، فإن التوترات الأمنية، وجود قسم من البلدة تحت سيطرة الاحتلال (منطقة H2)، وقيود الحركة والاقتحامات تشكّل تهديدًا دائمًا للحياة المدنية في قلب هذا التراث العمراني الحي.

ADVERTISEMENT
بواسطة Madosophy Ahmad على Wiki

أزقة وأحياء البلدة القديمة في الخليل التاريخية

زيارة البلدة القديمة في الخليل ليست مجرد جولة سياحية، بل تجربة غنية تجمع بين التاريخ المقدس، العمارة الفنية، الأسواق الحية، ومشهد المجتمعات المحلية المتماسكة في مواجهة التحديات. إنها مكان تنبض فيه الحياة وسط ذاكرة إنسانية تمتد لآلاف السنين.
إنها وجهة مثالية للحجاج من جميع الديانات، المهتمين بالتاريخ، عشّاق الحرف، والمصورين الباحثين عن جمال الأزقّة الحجرية والنقوش العثمانية والمملوكية. وتظل البلدة رمزًا لصمود أهلها، الذين بأيديهم يحافظون على إرث عمراني وثقافي رغم محاولات الطمس والتهميش.
الموقع قد يكون مدرجًا على قائمة التراث العالمي، لكنه في خطر دائم، وهو ما يجعل كل زيارة شهادة دعم وحضور حي للتراث الفلسطيني. عبر التقدير والتسليط الضوء، تُصان هذه الزينة الإنسانية من النسيان، وتُحيى القيم التي تُمثّل الضيافة والخير والنزاهة في روح إبراهيم عليه السلام.
في نهاية المطاف، الخليل القديمة ليست فقط للزيارة، بل للتعلّم، الحضور ورفد الأمل بعودة المدن التراثية لتحيا برسالة أهم من الجدران الحجرية التي تبقيها قائمة.

أكثر المقالات

toTop