حين تلوح مرتفعات شمال إثيوبيا أمام عينيك، تبرز غوندار كلوحة حجرية نابضة بحكايات الملوك والقلاع القديمة، وكأنك دخلت عالمًا من العصور الوسطى مختبئًا وسط إفريقيا. هذه المدينة الملكية التي تأسست في القرن السابع عشر، ظلت رمزًا للقوة والثقافة والدين، وهي اليوم واحدة من أروع وجهات السفر لعشاق التاريخ والعمارة والروحانية الأفريقية.
عندما تصل إلى غوندار، أول ما يأسر بصرك هو مجمّع القلاع الملكية المعروف بـ"فاسيل غيبي"، وهو عبارة عن قلاع وحصون وقاعات اجتماعات وكنائس ومكتبات ملكية وأسوار حجرية شاهقة تحيط بالمجمع من كل جانب. يشبه هذا المكان مدينة محصنة أكثر منه مجرد قصر ملكي، ولهذا كثيرًا ما يُطلق عليه "قلعة إفريقيا المفقودة".
قراءة مقترحة
تأسست غوندار عام 1636 على يد الإمبراطور فاسيلاديس (فاسيل) الذي نقل عاصمته إليها، وبنى قلعته الكبرى التي لا تزال قائمة حتى اليوم. توالى الملوك من بعده وأضافوا أبراجًا وأسوارًا وقاعات حكم ومساكن ومرافق أخرى، حتى تحولت غوندار إلى عاصمة سياسية وثقافية وروحية لإثيوبيا لما يقارب قرنين.
من بين جميع القلاع، قلعة فاسيلاديس الكبرى هي الأكثر بروزًا بجدرانها السميكة وأبراجها الدائرية المقببة. عند دخولك القلعة ستشعر بعظمة العمارة التي جمعت التأثير البرتغالي والهندي والأكسومي المحلي معًا، فتجد الأبواب المزخرفة والأقواس العالية والسلالم الحجرية المنحوتة بدقة. استخدم الإمبراطور القلعة كمقر لحكمه واستقبال مبعوثي الممالك الأجنبية والتجار القادمين من البحر الأحمر.
يمتد المجمع الملكي على مساحة واسعة يمكن التجول فيها لعدة ساعات، حيث تتوزع القلاع الأخرى مثل قلعة إياسو وقاعة دويت، فضلًا عن الكنائس الداخلية التي تحمل أيقونات إثيوبية قديمة وقاعات استقبال ذات زخارف ملونة تروي قصصًا دينية وتاريخية.
لا تقتصر غوندار على قلاعها الحجرية؛ فهي أيضًا مدينة الكنائس الأرثوذكسية الشهيرة. أهمها كنيسة ديبرا بيرهان سيلات التي بُنيت في القرن السابع عشر، وتتميز بسقفها الخشبي المزين بوجوه الملائكة الإثيوبية الشهيرة التي ترمز للحماية والصفاء. الجدران مليئة بالجداريات الدينية التي تصور قصص العهدين القديم والجديد بأسلوب أيقوني إثيوبي فريد.
زيارة هذه الكنيسة تمنحك فرصة لفهم الروحانية الإثيوبية العميقة التي تنعكس في طقوس القداس، والأناشيد، واللغة الجعزية المقدسة التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم في الصلوات والتراتيل.
إلى جانب القلاع والكنائس، هناك موقع آخر لا ينبغي تفويته وهو حمام فاسيلاديس الذي بُني أيضًا في القرن السابع عشر. يحيط بالمسبح المستطيل سور حجري مرتفع وبرج صغير كان الإمبراطور يستخدمه كغرفة خاصة. يستخدم هذا الحمام سنويًا في احتفال "الغطاس" أو "تيمكات"، حيث يمتلئ بالمياه ويجتمع آلاف الإثيوبيين للاحتفال بمعمودية المسيح. المشهد مهيب، يجسد ارتباط غوندار بالتقاليد الأرثوذكسية التي تمثل هوية شمال إثيوبيا.
إلى جانب المواقع الأثرية الكبرى، التجول في أزقة غوندار وأسواقها القديمة يمنحك صورة حية عن نمط الحياة المحلي. ستجد باعة البخور والتوابل والقهوة الإثيوبية، والحرفيين الذين ينحتون الصلبان الأرثوذكسية الفضية والبرونزية، إضافة إلى أزياء محلية مطرزة بخيوط ذهبية وفضية يرتديها أهل المنطقة في المناسبات الدينية.
يمكنك أيضًا تذوق أطباق غوندار الشهيرة مثل "دورو وات" (يخنة الدجاج الحارة) و"تيبس" (قطع اللحم المحمصة بالتوابل)، مع خبز "إنجيرا" الإسفنجي المصنوع من التيف، والذي يعتبر رمزًا للمائدة الإثيوبية.
تعد الفترة بين أكتوبر ومارس مثالية لزيارة غوندار، حيث يكون الطقس معتدلًا وجافًا، مما يتيح لك الاستمتاع بالتجول في المواقع التاريخية دون حرارة مزعجة أو أمطار غزيرة. إذا رغبت في تجربة ثقافية عميقة، احرص على زيارة المدينة خلال احتفال تيمكات في يناير، حيث تتحول المدينة إلى مسرح ضخم للطقوس الدينية والرقصات التقليدية والصلوات الجماعية.
يقع مطار غوندار على بعد حوالي 20 دقيقة من وسط المدينة، وترتبط الرحلات إليها عادة بالعاصمة أديس أبابا أو بمدن شمال إثيوبيا مثل بحر دار وأكسوم. كما يمكنك الوصول إليها برًا ضمن برامج السياحة التي تشمل "المثلث التاريخي" الشهير في إثيوبيا (أكسوم – لاليبيلا – غوندار)، وهي تجربة مثالية لمحبي التاريخ والسفر الثقافي العميق.
تتوفر في غوندار فنادق متنوعة تناسب جميع الميزانيات، بدءًا من النزل الاقتصادية المريحة وصولًا إلى فنادق تراثية مطلة على المجمع الملكي. من أشهر الخيارات فندق Goha Hotel الواقع على تلة مرتفعة، ما يمنحك إطلالة بانورامية على المدينة وقلاعها وأضواء منازلها المتناثرة على السفوح.
ميزة إضافية لزيارة غوندار هي قربها من جبال سيمين التي تُعد من أروع وجهات الترحال في إفريقيا. يمكن تنظيم رحلات يومية أو لعدة أيام إلى منتزه سيمين الوطني لمشاهدة قرود الجيلايدا endemic، والوديان العميقة، والقمم العالية مثل جبل راس داشن، أعلى نقطة في إثيوبيا.
عند التجول في شوارع غوندار الحجرية، ستشعر أنك عائد إلى ماضي إفريقيا الملكي. أصوات أجراس الكنائس، ورائحة البخور المنبعثة من البيوت، وضوء الشمس الذي ينعكس على جدران القلاع الصفراء المائلة للبني، كلها تجتمع لتخلق مشهدًا يثير الدهشة والرهبة. ولعلها واحدة من المدن القليلة في العالم التي تتيح لك أن ترى قلاعًا ملكية إفريقية بكامل مجدها، جنبًا إلى جنب مع حياة محلية نابضة بالتقاليد الروحية والثقافية.
إن زيارة غوندار رحلة إلى قلب إفريقيا الملكي القديم، تروي لك قصة حضارة استطاعت رغم العزلة الجغرافية أن تبني قصورها ومعابدها وتحافظ عليها عبر القرون، وتبقى حتى اليوم شاهدًا على عظمة التاريخ الإثيوبي.
أخطاء شائعة في إدارة المال بين العائلات العربية – وكيف تتجاوزها
حقبة جديدة من التعاون الاقتصادي بين أفريقيا والشرق الأوسط
تنفيذ ترميم قصر سيئون التاريخي في حضرموت اليمنية
مضاعفة مساحة مصر المأهولة بالسكان إلى 14% بحلول عام 2030: رؤية للنمو المستدام والتنمية الوطنية
جبال الأطلس، أعلى جبال العالم العربي، تمتد عبر ثلاث دول مغاربية: السمات الطبيعية والسكان.
زنوبيا: الملكة المتمردة على تدمر التي تحدت روما
كيفية قراءة شخصية شخص ما في 10 ثوانٍ
المشي لمسافات طويلة إلى فينيكونكا: جبل قوس قزح في بيرو
لماذا تسيطر مصر على عالم الإسكواش
دليلك للتخطيط لرحلة بميزانية محدودة